الثلاثاء، 8 أكتوبر 2019

سلسلة الأخلاق المحمودة | الصمت



سلسلة الأخلاق المحمودة
..:: الصمت ::..
معنى الصمت لغة واصطلاحاً
معنى الصمت لغة:
صَمَتَ يَصْمُتُ صَمْتاً وصُموتاً وصُماتاً: سَكَتَ. وأَصْمَتَ مثله. والتَصْميتُ: التَسكيتُ (1). وَيُقَال لغير النَّاطِق صَامت وَلَا يُقَال سَاكِت (2). وأصمته أَنا إصماتا إِذا أسكته. وَيُقَال: أَخذه الصمات إِذا سكت فَلم يتَكَلَّم (3).
معنى الصمت اصطلاحاً:
قال المناوي: (الصمت: فقد الخاطر بوجد حاضر. وقيل: سقوط النطق بظهور الحق. وقيل: انقطاع اللسان عند ظهور العيان) (4).
وقال الكفوي: (والصمت إمساك عن قوله الباطل دون الحق) (5).
أسماء مرادفة للصمت:
و (قالوا: ترك الكلام له أربعة أسماء:
1 - الصمت وهو أعمها حتى إنه يستعمل فيما ليس يقوى على النطق كقولهم (مال ناطق أو صامت).
2 - والسكوت وهو ترك الكلام ممن يقدر على الكلام.
3 - والإنصات هو السكوت مع استماع قال تعالى: فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ [الأعراف:204].
4 - والإصاخة وهو الاستماع إلى ما يصعب إدراكه كالسر والصوت من المكان البعيد) (6).
_________
(1) ((الصحاح تاج اللغة)) للجوهري (1/ 256).
(2) ((المعجم الوسيط)) لإبراهيم مصطفى وآخرون (ص: 522).
(3) ((جمهرة اللغة)) لابن دريد الأزدي (1/ 400).
(4) ((التوقيف على مهمات التعاريف)) لزين الدين المناوي (ص: 219).
(5) ((الكليات)) لأبي البقاء الكفوي (ص: 806).
(6) ((غرائب القرآن ورغائب الفرقان)) للنيسابوري (4/ 537).

الفرق بين الصمت والسكوت
(الفرق بينهما من وجوه:
1 - أنّ السّكوت هو ترك التّكلّم مع القدرة عليه، وبهذا القيد الأخير يفارق الصّمت؛ فإنّ القدرة على التّكلّم غير معتبرة فيه.
2 - كما أنّ الصّمت يراعى فيه الطّول النّسبيّ فمن ضمّ شفتيه آناً يكون ساكتا ولا يكون صامتا إلّا إذا طالت مدّة الضّمّ.
3 - السّكوت إمساك عن الكلام حقّا كان أو باطلا، أمّا الصّمت فهو إمساك عن قول الباطل دون الحقّ) (1).
(قال الرّاغب: الصّمت أبلغ من السّكوت؛ لأنّه قد يستعمل فيما لا قوّة له للنّطق وفيما له قوّة النّطق؛ ولهذا قيل لما لا نطق له الصّامت والمصمت، والسّكوت يقال لما له نطق فيترك استعماله) (2).
_________
(1) ((نضرة النعيم)) لمجموعة من الباحثين (7/ 2634).
(2) ((مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح)) لأبي الحسن الهروي (7/ 3038).

المفاضلة بين الصمت والكلام
(الصمت في موضعه ربّما كان أنفع من الإبلاغ بالمنطق في موضعه، وعند إصابة فرصته. وذاك صمتك عند من يعلم أنّك لم تصمت عنه عيّا ولا رهبة. فليزدك في الصّمت رغبة ما ترى من كثرة فضائح المتكلّمين في غير الفرص، وهذر من أطلق لسانه بغير حاجة) (1).
قال النووي: (وروّينا عن الأستاذ أبي القاسم القشيريّ رحمه الله قال: الصّمت بسلامة وهو الأصل والسّكوت في وقته صفة الرّجال كما أنّ النّطق في موضعه من أشرف الخصال قال وسمعت أبا عليّ الدّقّاق يقول من سكت عن الحقّ فهو شيطان أخرس قال فأمّا إيثار أصحاب المجاهدة السّكوت فلما علموا ما في الكلام من الآفات ثمّ ما فيه من حظّ النّفس وإظهار صفات المدح والميل إلى أن يتميّز من بين أشكاله بحسن النّطق وغير هذا من الآفات) (2).
(فليس الكلام مأمورًا به على الإطلاق، ولا السّكوت كذلك، بل لابدّ من الكلام بالخير والسّكوت عن الشّرّ، وكان السّلف كثيرًا يمدحون الصّمت عن الشّرّ، وعمّا لا يعني لشدّته على النّفس، وذلك يقع فيه النّاس كثيرًا، فكانوا يعالجون أنفسهم، ويجاهدونها على السّكوت عمّا لا يعنيهم) (3).
(ومن مدح الصمت، فاعتباراً بمن يسيء في الكلام، فيقع منه جنايات عظيمة في أمور الدين والدنيا. فإذا ما اعتبرا بأنفسهما، فمحال أن يقال في الصمت فضل، فضلا أن يخاير بينه وبين النطق. وسئل حكيم عن فضلهما فقال: الصمت أفضل حتى يحتاج إلى النطق وسئل آخر عن فضلهما فقال: الصمت عن الخنا، أفضل من الكلام بالخطا) (4).
وقال شمس الدين السفاريني: (المعتمد أنّ الكلام أفضل لأنّه من باب التّحلية، والسّكوت من التّخلية، والتّحلية أفضل، ولأنّ المتكلّم حصل له ما حصل للسّاكت وزيادةٌ، وذلك أنّ غاية ما يحصل للسّاكت السّلامة وهي حاصلةٌ لمن يتكلّم بالخير مع ثواب الخير) (5).
وقال ابن تيمية: (فالتكلم بالخير خير من السكوت عنه، والصمت عن الشر خير من التكلم به، فأما الصمت الدائم فبدعة منهي عنها، وكذلك الامتناع عن أكل الخبز واللحم وشرب الماء، فذلك من البدع المذمومة أيضا، كما ثبت في صحيح البخاري ‍ عن ابن عباس رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلا قائما في الشمس، فقال: ما هذا؟ فقالوا: أبو إسرائيل نذر أن يقوم في الشمس، ولا يستظل، ولا يتكلم، ويصوم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «مروه فليجلس، وليستظل، وليتكلم، وليتم صومه) (6).
(وتذاكروا عند الأحنف بن قيس، أيّهما أفضل الصّمت أو النّطق؟ فقال قوم: الصّمت أفضل، فقال الأحنف: النّطق أفضل، لأنّ فضل الصّمت لا يعدو صاحبه، والمنطق الحسن ينتفع به من سمعه.
وقال رجل من العلماء عند عمر بن عبد العزيز رحمه الله: الصّامت على علم كالمتكلّم على علم، فقال عمر: إنّي لأرجو أن يكون المتكلّم على علم أفضلهما يوم القيامة حالاً، وذلك أن منفعته للناس، وهذا صمته لنفسه، فقال له: يا أمير المؤمنين وكيف بفتنة النطق؟ فبكى عمر عند ذلك بكاءً شديداً) (7).
وقال ابن عبد البر: (الكلام بالخير من ذكر الله وتلاوة القرآن وأعمال البرّ أفضل من الصّمت وكذلك القول بالحقّ كلّه والإصلاح بين النّاس وما كان مثله) (8).
وقال أيضاً: (ممّا يبيّن لك أنّ الكلام بالخير والذّكر أفضل من الصّمت أنّ فضائل الذّكر الثّابتة في الأحاديث عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم لا يستحقّها الصّامت) (9).
وقال النيسابوري: (والإنصاف أن الصمت في نفسه ليس بفضيلة لأنه أمر عدمي والنطق في نفسه فضيلة، وإنما يصير رذيلة لأسباب عرضية مما عددها ذلك القائل فيرجع الحق إلى ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم: ((رحم الله امرأ قال خيرا فغنم أو سكت فسلم)) (10)).
وقال علي بن أبي طالب: (لا خير في الصمت عن العلم كما لا خير في الكلام عن الجهل) (11).
_________
(1) ((الرسائل السياسية)) للجاحظ (ص: 79).
(2) ((شرح النووي على مسلم)) للنووي (2/ 19 - 20).
(3) ((جامع العلوم والحكم)) لزين الدين الحنبلي (ص: 341).
(4) ((محاسن التأويل)) للقاسمي (9/ 100).
(5) ((غذاء الألباب في شرح منظومة الآداب)) للسفاريني (1/ 74).
(6) ((الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان)) لابن تيمية (ص: 61).
(7) ((جامع العلوم والحكم)) لزين الدين الحنبلي (ص: 341).
(8) ((التمهيد)) لابن عبد البر (22/ 20).
(9) ((التمهيد)) لابن عبد البر (22/ 20).
(10) رواه ابن أبي الدنيا في ((الصمت)) (ص71) من حديث خالد بن أبي عمران رحمه الله. وقال السيوطي في ((الجامع الصغير)) (4427): مرسل حسن.
(11) ذكره الرازي في ((تفسيره)) (2/ 401)، والنيسابوري في ((غرائب القرآن)) (1/ 227).

فضل الصمت
إن الشرع قد حث على الصمت ورغب فيه؛ لأنه يحفظ الإنسان من الوقوع في آفات اللسان ومنكرات الأقوال، ويَسْلَمْ به من الاعتذار للآخرين.
(عن أنس بن مالكٍ رضي الله عنه قال: أربعٌ لا يصبن إلّا بعجبٍ: الصّمت وهو أوّل العبادة، والتّواضع، وذكر الله، وقلّة الشّيء) (1).
(وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: أفضل العبادة الصمت، وانتظار الفرج) (2).
و (عن وهيب بن الورد رحمه الله، قال: كان يقال: الحكمة عشرة أجزاءٍ: فتسعةٌ منها في الصّمت، والعاشرة عزلة النّاس) (3).
(ويدلك على فضل لزوم الصمت أمر وهو أن الكلام أربعة أقسام: قسم هو ضرر محض، وقسم هو نفع محض، وقسم فيه ضرر ومنفعة، وقسم ليس فيه ضرر ولا منفعة.
أما الذي هو ضرر محض؛ فلا بد من السكوت عنه، وكذلك ما فيه ضرر ومنفعة لا تفي بالضرر.
وأما ما لا منفعة فيه ولا ضرر؛ فهو فضول والاشتغال به تضييع زمان، وهو عين الخسران، فلا يبقى إلا القسم الرابع، فقد سقط ثلاثة أرباع الكلام وبقي ربع، وهذا الربع فيه خطر، إذ يمتزج بما فيه إثم من دقائق الرياء والتصنع والغيبة وتزكية النفس وفضول الكلام امتزاجاً يخفى دركه فيكون الإنسان به مخاطراً ومن عرف دقائق آفات اللسان على ما سنذكره علم قطعاً أن ما ذكره صلى الله عليه وسلم هو فصل الخطاب حيث قال: ((من صمت نجا)) (4). فلقد أوتي والله جواهر الحكم قطعا وجوامع الكلم ولا يعرف ما تحت آحاد كلماته من بحار المعاني إلا خواص العلماء) (5).
_________
(1) رواه ابن أبي الدنيا في ((الصمت)) (ص262)، وابن أبي عاصم في ((الزهد)) (ص36)،وابن شاهين في ((الترغيب في فضائل الأعمال)) (ص116)، وابن عساكر في ((تاريخ دمشق)) (9/ 366) موقوفا.
(2) ((البيان والتبيين)) (1/ 245).
(3) ((الصمت)) لابن أبي الدنيا (ص: 62).
(4) رواه الترمذي (2501)، وأحمد (2/ 159) (6481)، والدارمي (3/ 1781) (2755) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما. قال المنذري في ((الترغيب والترهيب)) (3/ 343): رواته ثقات. وصححه الألباني في ((صحيح الجامع)) (6367).
(5) ((إحياء علوم الدين)) للغزالي (3/ 111 - 112).

الترغيب والحث على الصمت من القرآن والسنة
الترغيب والحث على الصمت من القرآن الكريم:
- قَوله تعالى: مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق: 18].
قال ابن كثير: (ما يلفظ أي: ابن آدم مِنْ قَوْلٍ أي: ما يتكلم بكلمة إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ أي: إلا ولها من يراقبها معتد لذلك يكتبها، لا يترك كلمة ولا حركة، كما قال تعالى: وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَامًا كَاتِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ [الانفطار: 10 - 12]) (1).
وقال الشوكاني: (أي: ما يتكلم من كلام، فيلفظه ويرميه من فيه إلا لديه، أي: على ذلك اللافظ رقيب، أي: ملك يرقب قوله ويكتبه، والرقيب: الحافظ المتتبع لأمور الإنسان الذي يكتب ما يقوله من خير وشر، فكاتب الخير هو ملك اليمين، وكاتب الشر ملك الشمال. والعتيد: الحاضر المهيأ. قال الجوهري: العتيد: الحاضر المهيأ، ... والمراد هنا أنه معد للكتابة مهيأ لها) (2).
وقال الشنقيطي: (قوله تعالى في هذه الآية الكريمة: ما يلفظ من قول، أي ما ينطق بنطق ولا يتكلم بكلام إلا لديه، أي إلا والحال أن عنده رقيبا، أي ملكا مراقبا لأعماله حافظا لها شاهدا عليها لا يفوته منها شيء. عتيد: أي حاضر ليس بغائب يكتب عليه ما يقول من خير وشر) (3).
وقال السمعاني: (أي: رقيب حاضر. قال الحسن: يكتب الملكان كل شيء حتّى قوله لجاريته اسقيني الماء، وناوليني نعلي، أو أعطيني ردائي، ويقال: يكتب كل شيء حتّى صفيره بشرب الماء) (4).
- وقوله تعالى: وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ [المؤمنون: 3].
قال الطبري: (قوله: وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ يقول تعالى ذكره: والذين هم عن الباطل وما يكرهه الله من خلقه معرضون) (5).
وقال الزجاج: (اللغو كل لعب وهزل، وكل معصية فمطرحة ملغاة، وهم الذين قد شغلهم الجد فيما أمرهم الله به عن اللغو) (6).
وقال السعدي: (وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ وهو الكلام الذي لا خير فيه ولا فائدة، مُعْرِضُونَ رغبة عنه، وتنزيها لأنفسهم، وترفعا عنه، وإذا مروا باللغو مروا كراما، وإذا كانوا معرضين عن اللغو، فإعراضهم عن المحرم من باب أولى وأحرى، وإذا ملك العبد لسانه وخزنه -إلا في الخير- كان مالكا لأمره،) (7).
- وقوله تعالى: وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا [الفرقان: 72].
قال الطبري: (إن الله أخبر عن هؤلاء المؤمنين الذين مدحهم بأنهم إذا مروا باللغو مروا كراما، واللغو في كلام العرب هو كل كلام أو فعل باطل لا حقيقة له ولا أصل، أو ما يستقبح ... فتأويل الكلام: وإذا مروا بالباطل فسمعوه أو رأوه، مروا كراما، مرورهم كراما في بعض ذلك بأن لا يسمعوه، وذلك كالغناء. وفي بعض ذلك بأن يعرضوا عنه ويصفحوا، وذلك إذا أوذوا بإسماع القبيح من القول، وفي بعضه بأن ينهوا عن ذلك، وذلك بأن يروا من المنكر ما يغير بالقول فيغيروه بالقول. وفي بعضه بأن يضاربوا عليه بالسيوف، وذلك بأن يروا قوما يقطعون الطريق على قوم، فيستصرخهم المراد ذلك منهم، فيصرخونهم، وكل ذلك مرورهم كراما) (8).
_________
(1) ((تفسير القرآن العظيم)) لابن كثير (7/ 398).
(2) ((فتح القدير)) للشوكاني (5/ 89).بتصرف
(3) ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/ 427).
(4) ((تفسير القرآن)) للسمعاني (5/ 240).
(5) ((جامع البيان في تأويل القرآن)) للطبري (19/ 9 – 10).
(6) ((معاني القرآن)) للزجاج (4/ 6).
(7) ((تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان)) للسعدي (ص 547).
(8) ((جامع البيان في تأويل القرآن)) للطبري (19/ 315 - 316)

وقال السعدي: (وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ وهو الكلام الذي لا خير فيه ولا فيه فائدة دينية ولا دنيوية ككلام السفهاء ونحوهم مَرُّوا كِرَامًا أي: نزهوا أنفسهم وأكرموها عن الخوض فيه ورأوا أن الخوض فيه وإن كان لا إثم فيه فإنه سفه ونقص للإنسانية والمروءة فربأوا بأنفسهم عنه وفي قوله: وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ إشارة إلى أنهم لا يقصدون حضوره ولا سماعه، ولكن عند المصادفة التي من غير قصد يكرمون أنفسهم عنه) (1).
- وقال عز وجل: وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً [الإسراء: 36].
قال القرطبي: (أصل القفو البهت والقذف بالباطل ... فهذه الآية تنهى عن قول الزور والقذف، وما أشبه ذلك من الأقوال الكاذبة والرديئة) (2).
وقال الطبري: (معنى ذلك: لا تقل للناس وفيهم ما لا علم لك به، فترميهم بالباطل، وتشهد عليهم بغير الحق، فذلك هو القفو. وإنما قلنا ذلك أولى الأقوال فيه بالصواب، لأن ذلك هو الغالب من استعمال العرب القفو فيه) (3).
وقال السعدي: وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً، أي: ولا تتبع ما ليس لك به علم، بل تثبت في كل ما تقوله وتفعله، فلا تظن ذلك يذهب لا لك ولا عليك، إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً فحقيق بالعبد الذي يعرف أنه مسئول عما قاله وفعله وعما استعمل به جوارحه التي خلقها الله لعبادته أن يعد للسؤال جوابا، وذلك لا يكون إلا باستعمالها بعبودية الله وإخلاص الدين له وكفها عما يكرهه الله تعالى) (4).
الترغيب والحث على الصمت من السنة النبوية:
- عن أبي هريرة- رضي الله عنه- عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه)) (5).
قال ابن عبد البر: (وفي هذا الحديث آداب وسنن منها التّأكيد في لزوم الصّمت وقول الخير أفضل من الصّمت لأنّ قول الخير غنيمة والسّكوت سلامة والغنيمة أفضل من السّلامة) (6).
وقال النووي: (وأمّا قوله صلّى الله عليه وسلّم: ((فليقل خيرًا أو ليصمت)) (7) فمعناه: أنّه إذا أراد أن يتكلّم؛ فإن كان ما يتكلّم به خيرًا محقّقًا يثاب عليه واجبًا أو مندوباً فليتكلّم، وإن لم يظهر له أنّه خير يثاب عليه فليمسك عن الكلام سواء ظهر له أنّه حرام أو مكروه أو مباح مستوي الطّرفين؛ فعلى هذا يكون الكلام المباح مأمورًا بتركه مندوبًا إلى الإمساك عنه مخافةً من انجراره إلى المحرّم أو المكروه، وهذا يقع في العادة كثيرًا أو غالبًا) (8).
- عن عبد الله بن عمرو- رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ((من صمت نجا)) (9).
_________
(1) ((تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان)) للسعدي (ص 587)
(2) ((الجامع لأحكام القرآن)) للقرطبي (10/ 258)
(3) ((جامع البيان في تفسير القرآن)) للطبري (17/ 448)
(4) ((تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان)) للسعدي (ص 457)
(5) رواه البخاري (6475)، ومسلم (47) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(6) ((التمهيد)) لابن عبدالبر (21/ 35).
(7) رواه البخاري (6475)، ومسلم (47) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(8) ((شرح النووي على مسلم)) للنووي (2/ 18).
(9) رواه الترمذي (2501)، وأحمد (2/ 159) (6481)، والدارمي (3/ 1781) (2755). قال المنذري في ((الترغيب والترهيب)) (3/ 343): رواته ثقات. وصححه الألباني في ((صحيح الجامع)) (6367).

قال الهروي: (مَنْ صَمَتَ: أَيْ: سَكَتَ عَنِ الشَّرِّ. نَجَا: أَيْ: فَازَ وَظَفَرَ بِكُلِّ خَيْرٍ، أَوْ نَجَا مِنْ آفَاتِ الدَّارَيْنِ) (1).
قال الغزالي: (من تأمل جميع ... آفات اللسان علم أنه إذا أطلق لسانه لم يسلم وعند ذلك يعرف سر قوله صلى الله عليه وسلم من صمت نجا لأن هذه الآفات كلها مهالك ومعاطب وهي على طريق المتكلم فإن سكت سلم من الكل وإن نطق وتكلم خاطر بنفسه إلا أن يوافقه لسان فصيح وعلم غزير وورع حافظ ومراقبة لازمة ويقلل من الكلام فعساه يسلم عند ذلك وهو مع جميع ذلك لا ينفك عن الخطر فإن كنت لا تقدر على أن تكون ممن تكلم فغنم فكن ممن سكت فسلم فالسلامة إحدى الغنيمتين) (2).
- عن سهل بن سعد، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من يضمن لي ما بين لحييه وما بين رجليه أضمن له الجنة)) (3).
قال ابن عبد البر: (في هذا الحديث دليل على أن أكبر الكبائر وإنما هي من الفم والفرج وما بين اللحيين الفم وما بين الرجلين الفرج ومن الفم ما يتولد من اللسان وهو كلمة الكفر وقذف المحصنات وأخذ أعراض المسلمين ومن الفم أيضا شرب الخمر وأكل الربا وأكل مال اليتيم ظلما ومن الفرج الزنى واللواط) الاستذكار (8/ 565)
قال ابن حجر في شرح هذا الحديث: (فالمعنى من أدّى الحقّ الّذي على لسانه من النّطق بما يجب عليه أو الصّمت عمّا لا يعنيه - ضمن له الرسول صلى الله عليه وسلم الجنة - ... فإن النطق باللسان أصل في حصول كل مطلوب فإذا لم ينطق به إلا في خير سلم وقال بن بطال دل الحديث على أن أعظم البلاء على المرء في الدنيا لسانه وفرجه فمن وقي شرهما وقي أعظم الشر) (4).
- عن عبد الله- رضي الله عنه- عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أنّه أدرك عمر بن الخطّاب في ركب، وعمر يحلف بأبيه، فناداهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ((ألا إنّ الله- عزّ وجلّ- ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم، فمن كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت)) (5).
قال الصديقي الشافعي: (أو ليصمت) بضم الميم أي: يسكت بالقصد عن الحلف بغير الله تعالى، أي: مريد اليمين مخير بين الحلف بالله تعالى وترك الحلف بغيره) (6).
قال ابن عثيمين: (من كان حالفا فليحلف بالله أو ليسكت يعني إما ليحلف بالله أو لا يحلف أما أن يحلف بغير الله فلا) (7).
قال عبد الله البسام: (ما يستفاد من الحديث: ... أن من أراد الحلف بغير اللَه فليلزم الصمت، فإنه أسلم له) (8).
_________
(1) ((مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح)) للهروي (7/ 3038).
(2) ((إحياء علوم الدين)) للغزالي (3/ 162) بتصرف.
(3) رواه البخاري (6474).
(4) ((فتح الباري)) لابن حجر (11/ 309 - 310).
(5) رواه البخاري (6108)، ومسلم (1646) من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.
(6) ((دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين)) للصديقي الشافعي (8/ 529)
(7) ((شرح رياض الصالحين)) لابن عثيمين (6/ 453)
(8) ((تيسير العلام شرح عمدة الأحكام)) لعبد الله البسام (ص 685)

أقوال السلف والعلماء في الصمت
- أخذ أبو بكر الصديق، رضي الله عنه بطرف لسانه وقال: (هذا الذي أوردني الموارد) (1).
- وعن علي رضي الله عنه قال: (بكثرة الصمت تكون الهيبة) (2).
- و (عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: تعلّموا الصّمت كما تعلّمون الكلام، فإن الصمت حلم عظيم، وكن إلى أن تسمع أحرص منك إلى أن تتكلم، ولا تتكلّم في شيء لا يعنيك، ولا تكن مضحاكاً من غير عجب، ولا مشّاء إلى غير أرب) (3).
- و (قال: أبو عمر الضّرير: سمعت رياحًا القيسيّ، يقول: قال لي عتبة: يا رياح إن كنت كلّما دعتني نفسي إلى الكلام تكلّمت فبئس النّاظر أنا، يا رياح إنّ لها موقفًا تغتبط فيه بطول الصّمت عن الفضول) (4).
- وقالوا: (اللسان سبع عقور) (5).
- (وقال الحسن رحمه الله: إملاء الخير خير من الصمت، والصمت خير من إملاء الشر) (6).
- وقال عبد الله بن أبي زكريّا: (عالجت الصّمت ثنتي عشرة سنةً، فما بلغت منه ما كنت أرجو، وتخوّفت منه فتكلّمت) (7).
_________
(1) رواه مالك (2/ 988)، والنسائي في ((السنن الكبرى)) (10/ 402) (11841).
(2) ((ربيع الأبرار)) للزمخشري (2/ 136)، و ((التذكرة الحمدونية)) لابن حمدون (1/ 360).
(3) رواه الخرائطي في ((مكارم الأخلاق)) (ص136).
(4) ((حلية الأولياء)) لأبي نعيم الأصبهاني (6/ 232).
(5) ((البيان والتبيين)) للجاحظ (1/ 170).
(6) ((البيان والتبيين)) للجاحظ (2/ 78).
(7) ((الصمت)) لابن أبي الدنيا (ص: 303).

أقسام الصمت
الصمت ينقسم إلى قسمين:
1 - صمت محمود:
أي أن تصمت عن كل ما حرم الله ونهى عنه مثل الغيبة والنميمة والبذاءة وغيرها، وكذلك الصمت عن الكلام المباح الذي يؤدي بك إلى الكلام الباطل.
قال ابن عبد البر: (وإنّما الصّمت المحمود الصّمت عن الباطل) (1).
وقال العيني: (الصمت المباح المرغوب فيه ترك الكلام الباطل، وكذا المباح الّذي يجر إلى شيء من ذلك) (2).
2 - صمت مذموم:
كالصمت في المواطن التي يتطلب منك أن تتكلم فيها مثل الأماكن التي ترى فيها المنكرات، وكذلك الصمت عن نشر الخير، وكتم العلم.
(وقد اختلف الفقهاء في الصمت هل هو حرام أو مكروه والتّحقيق أنه إذا طال وتضمن ترك الواجب صار حرامًا كما قال الصّديق رضي الله عنه) (3).
(قال عليّ بن أبي طالبٍ: لا خير في الصّمت عن العلم كما لا خير في الكلام عن الجهل) (4).
وقال ابن تيمية: (والصّمت عمّا يجب من الكلام حرام سواء اتّخذه دينًا أو لم يتّخذه) (5).
وقال أيضاً: (فقول الخير وهو الواجب أو المستحبّ خير من السّكوت عنه) (6).
وقال الباجي: (وأمّا الصّمت عن الخير وذكر الله عزّ وجلّ والأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر فليس بمأمور به بل هو منهيّ عنه نهي تحريم، أو نهي كراهة) (7).
وقال العيني (والصمت المنهي عنه ترك الكلام عن الحق لمن يستطيعه، وكذا المباح الّذي يستوي طرفاه) (8).
_________
(1) ((التمهيد)) لابن عبدالبر (22/ 20).
(2) ((عمدة القاري شرح صحيح البخاري)) لبدر الدين العيني (16/ 291).
(3) ((مختصر الفتاوى المصرية)) للبعلي (25/ 294).
(4) ذكره الرازي في ((تفسيره)) (2/ 401)، والنيسابوري في ((غرائب القرآن)) (1/ 227).
(5) ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (25/ 294).
(6) ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (25/ 293).
(7) ((المنتقى شرح الموطأ) للباجي (7/ 242).
(8) ((عمدة القاري شرح صحيح البخاري)) لبدر الدين العيني (16/ 291).

فوائد الصمت
وللصمت فوائد عديدة يعود نفعها على الفرد المتحلي به ومنها:
1. دليل كمال الإيمان، وحسن الإسلام.
2. السّلامة من العطب في المال، والنّفس، والعرض.
3. دليل حسن الخلق، وطهارة النّفس.
4. يثمر محبّة الله، ثمّ محبّة النّاس.
5. يهيّأ المجتمع الصّالح، والنّشء الصّالح.
6. سبب للفوز بالجنّة، والنّجاة من النّار.
7. من أقوى أسباب التوقير.
8. دليل على الحكمة.
9. داعية للسلامة من اللغط.
10. يجمع للإنسان لبه.
11. الفراغ للفكر والذكر والعبادة.
12. جمع الهم ودوام الوقار.
13. السلامة من تبعات القول في الدنيا ومن حسابه في الآخرة.
14. بالصمت تسيطر على من أمامك.
15. ترغم من معك على التحدث بما يدور في خلده.
16. يكسبك احترام الآخرين لك، ولاسيما في المواقف التي يدور فيها الجدال والصراع.
17. يساعدك على تعلم حسن الإنصات والاستماع (1).
_________
(1) انظر ((نضرة النعيم)) لمجموعة من الباحثين (7/ 2644)، ((منتهى السؤل على وسائل الوصول إلى شمائل الرسول)) لعبدالله بن سعيد الشحاري (ص: 418)، ((إحياء علوم الدين)) للغزالي (3/ 111).

صمت النبي صلى الله عليه وسلم:
كان النبي صلى الله عليه وسلم طويل الصمت، كثير الذكر، قليل الضحك، فـ ((عن سماك بن حرب، قال: قلت لجابر بن سمرة: أكنت تجالس النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم كان طويل الصمت، قليل الضحك، وكان أصحابه ربما تناشدوا عنده الشعر والشيء من أمورهم، فيضحكون، وربما يتبسم)) (1).
_________
(1) رواه أحمد (5/ 86) (20829)،والطيالسي (2/ 129) (808) والطبراني في ((الأوسط)) (7/ 120) (7031). قال الهيثمي في ((المجمع)) (10/ 300)، وحسنه السيوطي في ((الجامع الصغير)) (6839)، والألباني في ((صحيح الجامع)) (4822).

نماذج من صمت الصحابة:
- (عن زيد بن أسلم عن أبيه أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: اطلع على أبي بكر رضي الله عنه وهو يمد لسانه فقال: ما تصنع يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن هذا أوردني الموارد إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ليس شيء من الجسد إلا يشكو إلى الله اللسان على حدته)) (1).
- (وروي عن الصّدّيق أنّه كان يضع حصاةً في فيه يمنع بها نفسه من الكلام) (2).
- (وقال ابن بريدة: رأيت ابن عبّاسٍ آخذٌ بلسانه وهو يقول: ويحك قل خيرًا تغنم، أو اسكت عن سوءٍ تسلم، وإلّا فاعلم أنّك ستندم، قال: فقيل له: يا ابن عبّاسٍ، لم تقول هذا؟ قال: إنّه بلغني أنّ الإنسان - أراه قال - ليس على شيءٍ من جسده أشدّ حنقًا أو غيظًا يوم القيامة منه على لسانه إلّا ما قال به خيرًا، أو أملى به خيرًا) (3).
- (عن خالد بن سمير، قال: كان عمّار بن ياسر طويل الصّمت، طويل الحزن والكآبة، وكان عامّة كلامه عائذًا بالله من فتنته) (4).
- و (دخلوا على بعض الصّحابة في مرضه ووجهه يتهلّل، فسألوه، عن سبب تهلّل وجهه، فقال ما من عمل أوثق عندي من خصلتين: كنت لا أتكلّم فيما لا يعنيني، وكان قلبي سليمًا للمسلمين) (5).
_________
(1) رواه ابن أبي الدنيا في ((الصمت)) (ص50)، وأبو يعلى (1/ 17) (5)، والبيهقي في ((شعب الإيمان)) (7/ 24) (4596). وحسنه السيوطي في ((الجامع الصغير)) (7605)، وقال الألباني في ((السلسلة الصحيحة)) (535): صحيح الإسناد على شرط البخاري.
(2) ((مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح)) لملا علي القاري (7/ 3054).
(3) رواه أحمد في ((فضائل الصحابة)) (2/ 952)، وأبو نعيم في ((الحلية)) (1/ 327)، والفاكهي في ((أخبار مكة)) (1/ 178).
(4) رواه أبو نعيم في ((حلية الأولياء)) (1/ 142).
(5) رواه ابن سعد في ((الطبقات الكبرى)) (3/ 557) من حديث زيد بن أسلم.

نماذج من صمت السلف:
- (قال عمرو بن قيس الملائيّ: مرّ رجل بلقمان والنّاس عنده، فقال له: ألست عبد بني فلان؟ قال بلى، قال: الّذي كنت ترعى عند جبل كذا وكذا؟ قال: بلى، فقال: فما بلغ بك ما أرى؟ قال صدق الحديث وطول السّكوت عمّا لا يعنيني) (1).
- (وقال أرطأة بن المنذر: تعلم رجل الصمت أربعين سنة، بحصاة يضعها في فيه، لا ينزعها إلا عند طعام أو شراب أو نوم.
- وقال الفضيل بن عياض: كان بعض أصحابنا يحفظ كلامه من الجمعة إلى الجمعة) (2).
- (وكان أعرابي يجالس الشعبي ويطيل الصمت، فقال له الشعبي يوماً: ألا تتكلم فقال: أسكت فأسلم وأسمع فأعلم؛ إن حظ المرء في أذنه له، وفي لسانه لغيره) (3).
- (وقال محارب: صحبنا القاسم بن عبد الرحمن فغلبنا بطول الصمت.
- وقال الأعمش عن إبراهيم قال: كانوا يجلسون فأطولهم سكوتاً: أفضلهم في أنفسهم) (4).
_________
(1) ((جامع العلوم والحكم)) لزين الدين الحنبلي (ص: 293).
(2) ((صلاح الأمة في علو الهمة)) لسيد العفاني (5/ 375).
(3) ((وفيات الأعيان)) لابن خلكان (3/ 14).
(4) ((صلاح الأمة في علو الهمة)) لسيد العفاني (5/ 376).

نماذج من صمت العلماء:
- عن أبي إسحاق الفزاري قال: (كان إبراهيم بن أدهم رحمه الله يطيل السكوت؛ فإذا تكلم ربما انبسط قال: فأطال ذات يوم السكوت فقلت: لو تكلمت؟ فقال: الكلام على أربعة وجوه: فمن الكلام كلام ترجو منفعته وتخشى عاقبته، والفضل في هذا السلامة منه، ومن الكلام كلام لا ترجو منفعته ولا تخشى عاقبته، فأقل ما لك في تركه خفة المؤنة على بدنك ولسانك، ومن الكلام كلام ترجو منفعته وتأمن عاقبته، فهذا الذي يجب عليك نشره، قال خلف: فقلت لأبي إسحاق: أراه قد أسقط ثلاثة أرباع الكلام؟ قال: نعم) (1).
- و (قال إبراهيم التيمي: أخبرني من صحب الربيع بن خثيم عشرين سنة، فلم يتكلم بكلام لا يصعد) (2).
- (وقيل ما تكلم الربيع بن خثيم بكلام الدنيا عشرين سنة وكان إذا أصبح وضع دواة وقرطاساً وقلماً فكل ما تكلم به كتبه ثم يحاسب نفسه عند المساء) (3).
- (قال إسماعيل بن أميّة: كان عطاء: يطيل الصّمت، فإذا تكلّم يخيّل إلينا أنّه يؤيّد) (4).
- (قال خارجة بن مصعب: صحبت ابن عون ثنتي عشرة سنة، فما رأيته تكلم بكلمة كتبها عليه الكرام الكاتبون) (5).
- (قال مورّق العجليّ: أمر أنا في طلبه منذ عشر سنين لم أقدر عليه، ولست بتارك طلبه أبدًا، قال، وما هو يا أبا المعتمر، قال: الصّمت عمّا لا يعنيني) (6).
_________
(1) ((الصمت)) لابن أبي الدنيا (ص: 67).
(2) ((صلاح الأمة في علو الهمة)) لسيد العفاني (5/ 374).
(3) ((إحياء علوم الدين)) (3/ 111).
(4) ((حلية الأولياء)) لأبي نعيم الأصبهاني (3/ 313).
(5) ((صلاح الأمة في علو الهمة)) لسيد العفاني (5/ 377).
(6) ((المصنف)) لابن أبي شيبة (7/ 180).

الوسائل المعينة على اكتساب الصمت
الوسائل المعينة على اكتساب صفة الصمت كثيرة نذكر منها ما يلي:
1 - النظر في سيرة السلف الصالح والاقتداء بهم في صمتهم.
2 - التأمل في العواقب الوخيمة والسيئة للكلام الذي لا فائدة فيه والذي يفضي إلى الكلام الباطل.
3 - الابتعاد عن المجالس التي يكثر فيها اللغط والفحش والكلام البذيء.
قال الغزالي: (وأما الصمت فإنه تسهله العزلة ولكن المعتزل لا يخلو عن مشاهدة من يقوم له بطعامه وشرابه وتدبير أمره فينبغي أن لا يتكلم إلا بقدر الضرورة فإن الكلام يشغل القلب وشره القلوب إلى الكلام عظيم فإنه يستروح إليه ويستثقل التجرد للذكر والفكر فيستريح إليه فالصمت يلقح العقل ويجلب الورع ويعلم التقوى) (1).
_________
(1) ((إحياء علوم الدين)) للغزالي (3/ 76).

حكم وأمثال في الصمت
- (الصمت أخفى للنقيصة، وأنفى للغميصة) (1).
- (كان يقال: إذا فاتك الأدب فالزم الصّمت) (2).
- (إنّ في الصّمت لحكماً) (3).
- (عي الصمت أحمد من عي المنطق) (4).
- (الندم على السكوت خير من الندم على القول) (5).
- (الزم الصمت إذا لم تسأل) (6).
- (الصمت يكسب المحبّة) (7).
- (عيي صامت خير من عيي ناطق) (8).
- (الصمت زين العاقل، وستر الجاهل) (9).
- (الصّمت في غير فكرة سهو ... - والقول في غير حكمة لغو) (10).
- وقال عمرو بن العاص: (الكلام كالدواء إن أقللت منه نفع، وإن أكثرت منه قتل) (11).
- وقال لقمان لابنه: (يا بني إذا افتخر الناس بحسن كلامهم فافتخر أنت بحسن صمتك) (12).
- (وقالوا: بقدر ما يصمت اللسان يعمر الجنان، وبقدر ما كان يتكلم اللسان يخرب الجنان.
وقالوا أيضًا: إذا كثر العلم قلّ الكلام، وإذا قل العلم كثر الكلام.
وقالوا أيضًا: من عرف الله كلّ لسانه.
وقيل لبعض العلماء: هل العلم فيما سلف أكثر، أو اليوم أكثر؟ قال:
العلم فيما سلف أكثر، والكلام اليوم أكثر) (13).
- (خير الخلال حفظ اللسان: يضرب في الحث على الصمت (14).
- (قولهم: سكت ألفاً ونطق خلفاً: يضرب مثلاً للرجل يطيل الصمت ثمّ يتكلّم بالخطأ. والخلف الرّديء من القول. وكان للأحنف بن قيس جليس طويل الصمت فاستنطقه يومًا فقال أتقدر يا أبا بحر أن تمشي على شرف المسجد فقال الأحنف: سكت ألفا ونطق خلفا) (15).
- (ربّ كلمةٍ سلبت نعمةً: يضرب في اغتنام الصّمت (16).
- (الصّمت حكمٌ وقليلٌ فاعله: يقال: إن لقمان الحكيم دخل على داود عليهما السلام وهو يصنع درعاً، فهمّ لقمان أن يسأله عما يصنع، ثم أمسك ولم يسأل حتى تم داود الدرع وقام فلبسها، وقال: نعم أداة الحرب، فقال لقمان: الصّمت حكمٌ وقليل فاعله (17).
- (مخرنبق لينباع: ومعنى مخرنبق لينباع: مطرق وساكت ليثب إذا أصاب فرصة. والمعنى إنّه ساكت لداهية يريدها. ويضرب في الرجل يطيل الصمت حتى يسحب مغفلا وهو ذو نكراء (18).
_________
(1) ((ربيع الأبرار)) للزمخشري (2/ 134).
(2) ((عيون الأخبار)) للدينوري (2/ 192).
(3) ((الأمثال المولدة)) لأبي بكر الخوارزمي (ص: 101).
(4) ((جمهرة الأمثال)) لأبي هلال العسكري (1/ 494).
(5) ((الأمثال)) لأبي عبيد (ص: 44).
(6) ((الأمثال المولدة)) لأبي بكر الخوارزمي (ص: 602).
(7) ((جمهرة الأمثال)) لأبي هلال العسكري (1/ 602).
(8) ((الأمثال)) لأبي عبيد (ص: 44).
(9) ((ربيع الأبرار)) للزمخشري (2/ 142).
(10) ((السحر الحلال في الحكم والأمثال)) لأحمد الهاشمي (ص: 112).
(11) ((ربيع الأبرار)) للزمخشري (2/ 136).
(12) ((ربيع الأبرار)) للزمخشري (2/ 136).
(13) ((البحر المديد في تفسير القرآن المجيد)) لأبي العباس الفاسي (1/ 560).
(14) ((مجمع الأمثال)) لأبي الفضل النيسابوري (1/ 242).
(15) ((جمهرة الأمثال)) لأبي هلال العسكري (1/ 509 - 510).
(16) ((مجمع الأمثال)) لأبي الفضل النيسابوري (1/ 305).
(17) ((مجمع الأمثال)) لأبي الفضل النيسابوري (1/ 402).
(18) ((زهر الأكم في الأمثال والحكم)) لأبي الفضل النيسابوري (1/ 402).

وصايا في الصمت
- (قال رجل لسلمان رضي الله عنه: أوصني؟ قال: لا تتكلم قال: وكيف يصبر رجل على أن لا يتكلم؟ قال: فإن كنت لا تصبر عن الكلام فلا تتكلم إلا بخير أو اصمت) (1).
- و (قال رجل لبعض العارفين: أوصني قال: اجعل لدينك غلافا كغلاف المصحف لئلا يدنسه، قال: وما غلاف الدين؟ قال: ترك الكلام إلا فيما لا بد منه وترك طلب الدنيا إلا ما لا بد منه وترك مخالطة الناس إلا فيما لا بد منه) (2).
- وعن (عقيل بن مدركٍ، يرفعه إلى أبي سعيدٍ أنّ رجلًا أتاه، فقال: أوصني، فقال: أوصيك بتقوى الله، وعليك بالصّمت، فإنّك به تغلب الشّيطان) (3).
- و (عن أبي الذّيّال، قال: تعلّم الصّمت كما تعلّم الكلام، فإن يكن الكلام يهديك فإنّ الصّمت يقيك، ألا في الصّمت خصلتان: تدفع به جهل من هو أجهل منك، وتعلم به من علم من هو أعلم منك) (4).
- و (عن حبيب بن عيسى، قال: كان ابن مريم يقول: ابن آدم الضّعيف؛ علّم نفسك الصّمت كما تعلّمها الكلام، وكن مكينًا حتّى تسمع، ولا تكن مضحاكًا في غير عجبٍ، ولا هشًّا في غير أربٍ) (5).
- (وقال لقمان لابنه: يا بني إن غلبت على الكلام، فلا تغلب على الصمت، فكن على أن تسمع أحرص منك على أن تقول. إني ندمت على الكلام مراراً ولم أندم على الصمت مرة واحدة) (6).
- و (لما خرج يونس من بطن الحوت أطال الصمت فقيل له ألا تتلكم فقال الكلام صيرني في بطن الحوت) (7).
- و (قال بعض البلغاء: الزم الصمت فإنّه يكسبك صفو المحبّة ويؤمنك سوء المغبة ويلبسك ثوب الوقار ويكفيك مؤونة الاعتذار.
وتكلم أربعة من حكماء الملوك بأربع كلمات كأنّها رمية عن قوس فقال ملك الرّوم: أفضل علم العلماء السّكوت، وقال ملك الفرس: إذا تكلّمت بالكلمة ملكتني ولم أملكها، وقال ملك الهند: أنا على رد ما لم أقل أقدر مني على رد ما قلت. وقال ملك الصين: ندمت على الكلام ولم أندم على السّكوت) (8).
- (وقد قال بعض الصالحين: الزم الصمت يكسبك صفو المحبة, ويأمنك سوء المغبة, ويلبسك ثوب الوقار, ويكفك مؤنة الاعتذار, وقيل: الصمت آية الفضل, وثمرة العقل, وزين العلم, وعون الحلم؛ فالزمه تلزمك السلامة) (9).
_________
(1) رواه ابن أبي الدنيا في ((الصمت)) (ص65).
(2) ((فيض القدير)) للمناوي (3/ 82).
(3) ((الزهد)) لابن أبي عاصم (ص: 33).
(4) ((الزهد)) لابن أبي عاصم (ص: 51).
(5) ((الجامع في الحديث)) لابن وهب (ص: 532).
(6) ((الظرف والظرفاء)) لأبي الطيب الوشاء (ص7 - 8).
(7) ((أدب المجالسة وحمد اللسان)) لابن عبد البر (ص: 87).
(8) ((تسهيل النظر وتعجيل الظفر في أخلاق الملك)) للماوردي (ص: 59).
(9) ((صيد الأفكار في الأدب والأخلاق والحكم والأمثال)) لحسين المهدي (ص: 496).

صوم الصمت
- وهو الامتناع عن الكلام فلا يتكلم يومه وليلته، وهذا كان في الجاهلية، ومنعه الإسلام:
- (قال الخطّابيّ في شرح حديث: (لا يتم بعد احتلام ولا صمت يوم إلى اللّيل): (1) كان من نسك أهل الجاهليّة الصّمت فكان أحدهم يعتكف اليوم واللّيلة ويصمت فنهوا عن ذلك وأمروا بالنّطق بالخير) (2).
- (قال ابن الهمام: يكره صوم الصمت، وهو أن يصوم، ولا يتكلم، يعني يلتزم عدم الكلام، بل يتكلم بخير، وبحاجة) (3).
_________
(1) رواه النيسابوري في ((الزيادات على كتاب المزني)) (ص551).
(2) ((فتح الباري)) لابن حجر (7/ 150).
(3) ((شرح مسند أبي حنيفة)) لأبي الحسن الهروي (ص: 488).

صمت العيي
- (كان رجل يجلس إلى أبي يوسف فيطيل الصمت. فقال له أبو يوسف: ألا تتكلم؟ فقال: بلى متى يفطر الصائم. قال: إذا غابت الشمس، قال: فإن لم تغب إلى نصف الليل؟ قال: فضحك أبو يوسف وقال: أصبت في صمتك، وأخطأت أنا في استدعاء نطقك، ثمّ تمثل:
عجبت لإزراء العييّ بنفسه ... وصمت الّذي قد كان للقول أعلما
وفي الصمت ستر للعيي، وإنّما ... صحيفة لب المرء أن يتكلما) (1) ...
_________
(1) ((تاريخ بغداد وذيوله)) للخطيب البغدادي (14/ 251).

الصمت في واحة الشعر ..
قال الشافعي:
قالوا سكت وقد خوصمت قلت لهم ... إن الجواب لباب الشر مفتاح
والصمت عن جاهل أو أحمق شرف ... وفيه أيضا لصون العرض إصلاح
أما ترى الأسود تخشى وهي صامتة ... والكلب يخسى لعمري وهو نباح
وقال أيضاً:
وجدت سكوتي متجرا فلزمته ... إذا لم أجد ربحا فلست بخاسر
وما الصمت إلا في الرجال متاجر ... وتاجره يعلو على كل تاجر
وقال آخر:
قالوا نراك تطيل الصمت قلت لهم ... ما طول صمتي من عي ولا خرس
لصمت أحمد في الحالين عاقبة ... عندي وأحسن بي من منطق شكس
قالوا فأنت مصيب لست ذا خطأ ... فقلت ماذا أردتني وجه مفترس
أأفرش البر فيمن ليس يعرفه؟ ... أم أنثر الدر بين العمي في الغلس
وقال آخر:
متى تطبق على شفتيك تسلم ... وإن تفتحهما فقل الصوابا
فما أحد يطيل الصمت إلا ... سيأمن أن يذم وأن يعابا
فقل خيراً أو اسكت عن كثير ... من القول المحل بك العتابا
وأجاد من قال:
مهلاً سليماً أقلي اللوم أو فلمي ... من أقعدته صروف الدهر لم يقم
حظي يقصر بي عن كل مكرمة ... ولا تقصر بي عن نيلها هممي
سألزم الصمت ما دام الزمان كذا ... وأمنع الدهر من نطق اللسان فمي
إن لامني لائم في الصمت قلت له ... حبس الفتى نطقه حرز من الندم
وقال أبو جعفر القرشيّ:
استر العيّ ما استطعت بصمت ... إنّ في الصّمت راحةً للصّموت
واجعل الصّمت إن عييت جوابًا ... ربّ قول جوابه في السّكوت (1)
وقال آخر:
إن كان يعجبك السكوت فإنه ... قد كان يعجب قبلك الأخيار
ولئن ندمت على سكوت مرة ... فلقد ندمت على الكلام مرارا
إن السكوت سلامة ولربما ... زرع الكلام عداوة وضرارا
وإذا تقرب خاسر من خاسر ... زادا بذاك خسارة وتبارا
وأنشد الأبرش:
ما ذل ذو صمت وما من مكثر ... إلا يزل وما يعاب صموت
إن كان منطق ناطق من فضة ... فالصمت در زانه الياقوت
وقال آخر:
وكن رزينا طويل الصّمت ذا فكر ... فإن نطقت فلا تكثر من الخطب
ولا تجب سائلا من غير تروية ... وبالّذي مثله تسأل فلا تجب
قال أحيحة بن الجلاح:
والصمت أجمل بالفتى ... ما لم يكن عيّ يشينه
والقول ذو خطل إذا ... ما لم يكن لب يعينه
وقال مخرّز بن علقمة:
لقد وارى المقابر من شريك ... كثير تحلم وقليل عاب
صموتا في المجالس غير عيّ ... جديرا حين ينطق بالصواب
وقال مكّيّ بن سوادة:
تسلّم بالسكوت من العيوب ... فكان السكت أجلب للعيوب
ويرتجل الكلام وليس فيه ... سوى الهذيان من حشد الخطيب (2)
وقال آخر:
عجبت لإدلال العييّ بنفسه ... وصمت الذي كان بالقول أعلما
وفي الصمت ستر للعييّ وإنما ... صحيفة لبّ المرء أن يتكلما (3)
وقال أحد الشعراء:
أرى الصّمت أدنى لبعض الصّواب ... وبعض التّكلّم أدنى لعيّ (4)
وقال أبو العتاهية:
إذا كنت عن أن تحسن الصمت عاجزاً ... فأنت عن الإبلاغ في القول أعجز
يخوض أناس في المقال ليوجزوا ... وللصمت عن بعض المقالات أوجز (5)
وقال آخر:
استر النفس ما استطعت بصمت ... إن في الصمت راحة للصموت
واجعل الصمت إن عييت جواباً ... رب قول جوابه في السكوت (6)
وقال آخر:
قد أفلح الصّامت السكوت ... كلام راعي الكلام قوت
ما كل نطق له جواب ... جواب ما يكره السكوت
العدل
_________
(1) ((الصمت)) لابن أبي الدنيا (ص: 300).
(2) ((البيان والتبيين)) للجاحظ (1/ 29).
(3) ((البيان والتبيين)) للجاحظ (1/ 189).
(4) ((عيون الأخبار)) للدينوري (2/ 190).
(5) ((الظرف والظرفاء)) لأبي الطيب الوشاء (ص: 6).
(6) ((الظرف والظرفاء)) لأبي الطيب الوشاء (ص: 7).

معنى العدل لغة واصطلاحاً
معنى العدل لغة:
عَدَلَ يَعْدِلُ فهو عادِلٌ من عُدولٍ وعَدْلٍ بلَفْظ الواحِدِ وهذا اسمٌ للجَمع. رجُلٌ عَدْلٌ وامرأةٌ عَدْلٌ وعَدْلَةٌ. وعَدَّلَ الحُكْمَ تَعديلاً: أقامَهُ.
والعدل: خلاف الجَوَر. يقال: عَدَلَ عليه في القضيّة فهو عادِلٌ. وبسط الوالي عَدْلَهُ ومَعْدِلَتَهُ ومَعْدَلَتَهُ. وفلان من أهل المَعْدَلَةِ. وهو ما قام في النفوس أَنه مُسْتقيم. (1)
معنى العدل اصطلاحاً:
العدل هو: (أن تعطي من نفسك الواجب وتأخذه) (2).
وقيل هو: (عبارة عن الاستقامة على طريق الحق بالاجتناب عما هو محظور دينا) (3).
وقيل هو: (استعمال الأمور في مواضعها، وأوقاتها، ووجوهها، ومقاديرها، من غير سرف، ولا تقصير، ولا تقديم، ولا تأخير) (4).
_________
(1) ((الصحاح في اللغة)) للجوهري (5/ 1760)، ((لسان العرب)) لابن منظور (11/ 430). ((القاموس المحيط)) للفيروز آبادي (ص1030).
(2) ((الأخلاق والسير)) لابن حزم (ص: 81).
(3) ((التعريفات)) للجرجاني (ص147).
(4) ((تهذيب الأخلاق)) للجاحظ (ص 28).

الفرق بين العدل وبعض الصفات
الفرق بين العدل والقسط:
(القسط: هو العدل البين الظاهر ومنه سمي المكيال قسطا والميزان قسطا لأنه يصور لك العدل في الوزن حتى تراه ظاهرا وقد يكون من العدل ما يخفى ولهذا قلنا إن القسط هو النصيب الذي بينت وجوهه وتقسط القوم الشيء تقاسموا بالقسط) (1).
الفرق بين العدل والإنصاف:
(الإنصاف: إعطاء النصف، والعدل يكون في ذلك وفي غيره ألا ترى أن السارق إذا قطع قيل إنه عدل عليه ولا يقال إنه أنصف، وأصل الإنصاف أن تعطيه نصف الشيء وتأخذ نصفه من غير زيادة ولا نقصان، وربما قيل أطلب منك النصف كما يقال أطلب منك الإنصاف ثم استعمل في غير ذلك مما ذكرناه، ويقال أنصف الشيء إذا بلغ نصف نفسه، ونصف غيره إذا بلغ نصفه) (2).
_________
(1) ((الفروق اللغوية)) لأبي هلال العسكري (ص 428).
(2) ((الفروق اللغوية)) لأبي هلال العسكري (ص 80).

أهمية العدل
أرسل الله رسله وأنزل معهم ميزان العدل، ليقوم الناس بالقسط، وما ذلك إلا لأهميته، قال تعالى: لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ [الحديد:25]
ووردت نصوص قرآنية وأحاديث نبوية كثيرة تأمر بالعدل وترغب فيه، وتمدح من يقوم به،
يقول ابن القيم رحمه الله: (فإن الله سبحانه أرسل رسله وأنزل كتبه ليقوم الناس بالقسط وهو العدل الذي قامت به الأرض والسموات فإذا ظهرت أمارات العدل وأسفر وجهه بأي طريق كان فثم شرع الله ودينه والله سبحانه أعلم وأحكم وأعدل أن يخص طرق العدل وأماراته وأعلامه بشيء ثم ينفي ما هو أظهر منها وأقوى دلالة وأبين أمارة فلا يجعله منها ولا يحكم عند وجودها وقيامها بموجبها، بل قد بين سبحانه بما شرعه من الطرق أن مقصوده إقامة العدل بين عباده وقيام الناس بالقسط فأي طريق استخرج بها العدل والقسط فهي من الدين وليست مخالفة له) (1).
_________
(1) ((الطرق الحكمية)) لابن القيم (ص: 19).

آثار وفوائد العدل
1 - العدل ميزان الله في الأرض به يؤخذ للمظلوم من الظالم.
2 - من قام بالعدل نال محبة الله سبحانه قال تعالى: وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ [الحجرات:9]
3 - بالعدل يحصل الوئام بين الحاكم والمحكوم. 4 - العدل أساس الدول والملك. 5 - بالعدل يستتب الأمن في البلاد.
6 - بالعدل تحصل الطمأنينة في النفوس.
7 - العدل سبب لدخول غير المسلمين إلى الإسلام.
8 - بالعدل يسود في المجتمع التعاون والتماسك.

الأمر بالعدل ومدح من يقوم به
الأمر بالعدل ومدح من يقوم به في القرآن الكريم
أمر الله بإقامة العدل وحث عليه ومدح من قام به وذلك في آيات كثيرة منها:
1 - آيات فيها الأمر بالعدل منها:
- قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [النحل:90]
قال السعدي رحمه الله: (فالعدل الذي أمر الله به يشمل العدل في حقه وفي حق عباده، فالعدل في ذلك أداء الحقوق كاملة موفرة بأن يؤدي العبد ما أوجب الله عليه من الحقوق المالية والبدنية والمركبة منهما في حقه وحق عباده، ويعامل الخلق بالعدل التام، فيؤدي كل وال ما عليه تحت ولايته سواء في ذلك ولاية الإمامة الكبرى، وولاية القضاء ونواب الخليفة، ونواب القاضي.
والعدل هو ما فرضه الله عليهم في كتابه، وعلى لسان رسوله، وأمرهم بسلوكه، ومن العدل في المعاملات أن تعاملهم في عقود البيع والشراء وسائر المعاوضات، بإيفاء جميع ما عليك فلا تبخس لهم حقا ولا تغشهم ولا تخدعهم وتظلمهم. فالعدل واجب، والإحسان فضيلة مستحب) (1).
- وقال عز من قائل: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلى بِهِما فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً [النساء:135]
يقول ابن كثير رحمه الله: (يأمر تعالى عباده المؤمنين أن يكونوا قوامين بالقسط، أي بالعدل، فلا يعدلوا عنه يمينا ولا شمالا ولا تأخذهم في الله لومة لائم، ولا يصرفهم عنه صارف، وأن يكونوا متعاونين متساعدين متعاضدين متناصرين فيه.
وقوله: شُهَدَاءَ لِلَّهِ كَمَا قَالَ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ أي: ليكن أداؤها ابتغاء وجه الله، فحينئذ تكون صحيحة عادلة حقا، خالية من التحريف والتبديل والكتمان؛ ولهذا قال: وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أي: اشهد الحق ولو عاد ضررها عليك وإذا سُئِلت عن الأمر فقل الحق فيه، وإن كان مَضرة عليك، فإن الله سيجعل لمن أطاعه فرجا ومخرجا من كل أمر يضيق عليه) (2).
- وقال سبحانه: فَلِذلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ لا حُجَّةَ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ [الشورى:15]
يقول تعالى ذكره: (وقل لهم يا محمد: وأمرني ربي أن أعدل بينكم معشر الأحزاب، فأسير فيكم جميعا بالحق الذي أمرني به وبعثني بالدعاء إليه ... وعن قتادة، قوله: ((وَأُمِرْتُ لأعْدِلَ بَيْنَكُمُ قال: أمر نبي الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم أن يعدل، فعدل حتى مات صلوات الله وسلامه عليه)) (3). والعدل ميزان الله في الأرض، به يأخذ للمظلوم من الظالم، وللضعيف من الشديد، وبالعدل يصدّق الله الصادق، ويكذّب الكاذب، وبالعدل يرد المعتدي ويوبخه) (4).
2 - آيات فيها مدح من يقوم بالعدل:
- قال سبحانه: وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ [الأعراف:181]
_________
(1) ((تفسير الكريم الرحمن)) للسعدي (ص 447).
(2) ((تفسير القرآن العظيم)) لابن كثير (2/ 433).
(3) رواه الطبري في ((جامع البيان)) (21/ 517).
(4) ((جامع البيان)) للطبري (21/ 517).

قال ابن كثير رحمه الله: (يقول تعالى: وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أي: ومن الأمم أُمًّةٌ قائمة بالحق، قولا وعملا يَهْدُونَ بِالْحَقِّ يقولونه ويدعون إليه، وَبِهِ يَعْدِلُونَ يعملون ويقضون.
وقد جاء في الآثار: أن المراد بهذه الأمة المذكورة في الآية، هي هذه الأمة المحمدية.
قال سعيد، عن قتادة في تفسير هذه الآية: بلغنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقول إذا قرأ هذه الآية: هذه لكم، وقد أعطي القوم بين أيديكم مثلها: وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (1) [الأعراف:159]) (2).
- وقال عز من قائل: وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [النحل:76]
(يقول الله تعالى هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ يعني: هل يستوي هذا الأبكم الكل على مولاه الذي لا يأتي بخير حيث توجه ومن هو ناطق متكلم يأمر بالحقّ ويدعو إليه وهو الله الواحد القهار، الذي يدعو عباده إلى توحيده وطاعته، يقول: لا يستوي هو تعالى ذكره، والصنم الذي صفته ما وصف. وقوله وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ يقول: وهو مع أمره بالعدل، على طريق من الحقّ في دعائه إلى العدل، وأمره به مستقيم، لا يَعْوَجّ عن الحقّ ولا يزول عنه) (3).
الأمر بالعدل ومدح من يقوم به في السنة النبوية:
لقد أقام النبي صلى الله عليه وسلم العدل، ورغب فيه، وقد وردت نصوص حديثية تدل على تطبيقه قواعد العدل، منها:
- عن عبادة بن الصامت- رضي الله عنه- قال: ((بايعنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على السّمع والطّاعة في عسرنا ويسرنا، ومنشطنا ومكارهنا، وعلى أن لا ننازع الأمر أهله، وعلى أن نقول بالعدل أين كنّا، لا نخاف في الله لومة لائم)) (4).
- وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إن المقسطين يوم القيامة على منابر من نور عن يمين الرحمن وكلتا يديه يمين الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا)) (5).
قال ابن عثيمين رحمه الله: (فالعدل واجب في كل شيء لكنه في حق ولاة الأمور آكد وأولى وأعظم لأن الظلم إذا وقع من ولاة الأمور حصلت الفوضى والكراهة لهم حيث لم يعدلوا) (6).
_________
(1) رواه الطبري في ((جامع البيان)) (13/ 286).
(2) ((تفسير القرآن العظيم)) لابن كثير (3/ 516).
(3) ((جامع البيان)) للطبري (17/ 262).
(4) رواه النسائي (4153)، وأحمد (3/ 441) (15691) من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه. وصححه ابن عبد البر في ((التمهيد)) (23/ 272)، وابن العربي في ((عارضة الأحوذي)) (4/ 91)، والألباني في ((صحيح النسائي)) (4164).
(5) رواه ابن حبان (10/ 336)، وابن أبي شيبة (7/ 39) (34035)، واللالكائي في ((شرح أصول اعتقاد أهل السنة)) (699) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما. وصححه ابن العربي كما في ((التذكرة للقرطبي)) (223)، وابن تيمية في ((تلبيس الجهمية)) (5/ 485).
(6) ((شرح رياض الصالحين)) لابن عثيمين (3/ 641).

- وعن أبي سعيد الخدريّ- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ((إنّ أحبّ النّاس إلى الله يوم القيامة، وأدناهم منه مجلسا: إمام عادل، وأبغض النّاس إلى الله، وأبعدهم منه مجلسا: إمام جائر)) (1).
قال الحافظ: (المراد به صاحب الولاية العظمى ويلتحق به كل من ولي شيئا من أمور المسلمين فعدل فيه، ويؤيده رواية مسلم من حديث عبد الله بن عمرو رفعه: ((إن المقسطين عند الله .... )) (2) قال وأحسن ما فسر به العادل الذي يتبع أمر الله بوضع كل شيء في موضعه من غير إفراط ولا تفريط وقدمه في الذكر لعموم النفع به) (3).
- وعن أبي هريرة- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ((ثلاثة لا تردّ دعوتهم، الإمام العادل، والصّائم حتّى يفطر، ودعوة المظلوم يرفعها الله دون الغمام يوم القيامة، وتفتح لها أبواب السّماء ويقول: بعزّتي، لأنصرنّك ولو بعد حين)) (4).
قال الغزالي: (فيه أن الإمارة والخلافة من أفضل العبادات إذا كانتا مع العدل والإخلاص ولم يزل المتقون يحترزون منها ويهربون من تقلدها لما فيها من عظيم الخطر إذ تتحرك به الصفات الباطنة ويغلب على النفس حب الجاه والاستيلاء ونفاذ الأمر وهو أعظم ملاذ الدنيا) (5).
- وعنه أيضاً رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ((سبعة يظلّهم الله تعالى في ظلّه يوم لا ظلّ إلّا ظلّه: إمام عدل، وشابّ نشأ في عبادة الله، ورجل قلبه معلّق في المساجد، ورجلان تحابّا في الله اجتمعا عليه وتفرّقا عليه، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال، فقال: إنّي أخاف الله، ورجل تصدّق بصدقة فأخفاها حتّى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه)) (6).
قال ابن رجب: (وأول هذه السبعة: الإمام العادل. وَهُوَ أقرب النَّاس من الله يوم القيامة، وَهُوَ عَلَى منبر من نور عَلَى يمين الرحمن، وذلك جزاء لمخالفته الهوى، وصبره عَن تنفيذ مَا تدعوه إليه شهواته وطمعه وغضبه، مَعَ قدرته عَلَى بلوغ غرضه من ذَلِكَ؛ فإن الإمام العادل دعته الدنيا كلها إلى نفسها، فقالَ: إني أخاف الله رب العالمين. وهذا أنفع الخلق لعباد الله، فإنه إذا صلح صلحت الرعية كلها. وقد روي أَنَّهُ ظل الله فِي الأرض؛ لأن الخلق كلهم يستظلون بظله، فإذا عدل فيهم أظله الله فِي ظله) (7).
_________
(1) رواه الترمذي (1329)، وأحمد (3/ 55) (11542) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. قال الترمذي: حسن غريب. ومثله قال البغوي في ((شرح السنة)) (5/ 314)، وقال الذهبي في ((المهذب)) (8/ 4069): فيه عطية ضعيف. وضعفه الألباني في ((السلسلة الضعيفة)) (1156).
(2) رواه ابن حبان (10/ 336)، وابن أبي شيبة (7/ 39) (34035)، واللالكائي في ((شرح أصول اعتقاد أهل السنة)) (699) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما. وصححه ابن العربي كما في ((التذكرة للقرطبي)) (223)، وابن تيمية في ((تلبيس الجهمية)) (5/ 485).
(3) ((فتح الباري)) لابن حجر (2/ 145).
(4) رواه الترمذي (3598)، وابن ماجه (1752)، وأحمد (2/ 304) (8030) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وصححه ابن الملقن في ((البدر المنير)) (5/ 152)، وحسنه السيوطي في الجامع الصغير)) (3520)، وصحح إسناده أحمد شاكر في ((تخريج المسند)) (15/ 189).
(5) ((إحياء علوم الدين)) للغزالي (3/ 324).
(6) رواه البخاري (660)، ومسلم (1031) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(7) ((فتح الباري)) لابن رجب (4/ 59).

أقوال السلف والعلماء في العدل
- قال عمر بن الخطّاب رضي الله عنه: (إنّ الله إنّما ضرب لكم الأمثال، وصرف لكم القول لتحيا القلوب، فإنّ القلوب ميّتة في صدورها حتّى يحييها الله، من علم شيئا فلينفع به، إنّ للعدل أمارات وتباشير، فأمّا الأمارات فالحياء والسّخاء والهين واللّين. وأمّا التّباشير فالرّحمة. وقد جعل الله لكلّ أمر بابا، ويسّر لكلّ باب مفتاحا، فباب العدل الاعتبار، ومفتاحه الزّهد، والاعتبار ذكر الموت والاستعداد بتقديم الأموال. والزّهد أخذ الحقّ من كلّ أحد قبله حقّ، والاكتفاء بما يكفيه من الكفاف فإن لم يكفه الكفاف لم يغنه شيء ... ). (1).
- (وقدم على عمر بن الخطاب رجل من أهل العراق فقال لقد جئتك لأمر ماله رأس ولا ذنب فقال عمر ما هو قال شهادات الزور ظهرت بأرضنا فقال عمر أو قد كان ذلك قال نعم فقال عمر والله لا يؤسر رجل في الإسلام بغير العدول) (2).
- وقال ربعيّ بن عامر رضي الله عنه لرستم قائد الفرس لما سأله ما جاء بكم؟ فقال: (الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضيق الدّنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، فأرسلنا بدينه إلى خلقه لندعوهم إليه، فمن قبل ذلك قبلنا منه ورجعنا عنه، ومن أبى قاتلناه حتّى نفيء إلى موعود الله ... ) (3).
- وقال عمرو بن العاص: (لا سلطان إلا بالرجال، ولا رجال إلا بمال، ولا مال إلا بعمارة، ولا عمارة إلا بعدل) (4).
- وقال ميمون بن مهران: (سمعت عمر يقول: لو أقمت فيكم خمسين عاما ما استكملت فيكم العدل إني لأريد الأمر وأخاف أن لا تحمله قلوبكم فأخرج معه طمعا من الدنيا فإن أنكرت قلوبكم هذا سكنت إلى هذا) (5).
- (وخطب سعيد بن سويد بحمص، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أيها الناس إن للإسلام حائطاً منيعا وبابا وثيقاً، فحائط الإسلام الحق وبابه العدل. ولا يزال الإسلام منيعاً ما اشتد السلطان. وليست شدة السلطان قتلاً بالسيف ولا ضرباً بالسوط، ولكن قضاء بالحق وأخذاً بالعدل) (6).
- وقال ابن حزم رحمه الله: (أفضل نعم الله تعالى على المرء أن يطبعه على العدل وحبّه، وعلى الحقّ وإيثاره) (7).
- وقال ابن تيمية رحمه الله: (العدل نظام كلّ شيء فإذا أقيم أمر الدّنيا بعدل قامت وإن لم يكن لصاحبها في الآخرة من خلاق. ومتى لم تقم بعدل لم تقم، وإن كان لصاحبها من الإيمان ما يجزى به في الآخرة) (8).
- وقال أيضا: (وأمور الناس تستقيم في الدنيا مع العدل الذي فيه الاشتراك في أنواع الإثم: أكثر مما تستقيم مع الظلم في الحقوق وإن لم تشترك في إثم؛ ولهذا قيل: إن الله يقيم الدولة العادلة وإن كانت كافرة؛ ولا يقيم الظالمة وإن كانت مسلمة. ويقال: الدنيا تدوم مع العدل والكفر ولا تدوم مع الظلم والإسلام) (9).
- وقال ابن القيّم رحمه الله تعالى: (ومن له ذوق في الشريعة واطلاع على كمالها وتضمنها لغاية مصالح العباد في المعاش والمعاد ومجيئها بغاية العدل الذي يسع الخلائق وأنه عدل فوق عدلها ولا مصلحة فوق ما تضمنته من المصالح تبين له أن السياسة العادلة جزء من أجزائها وفرع من فروعها وأن من أحاط علما بمقاصدها ووضعها موضعها وحسن فهمه فيها لم يحتج معها إلى سياسة غيرها البتة.
فإن السياسة نوعان: سياسة ظالمة فالشريعة تحرمها. وسياسة عادلة تخرج الحق من الظالم الفاجر فهي من الشريعة علمها من علمها وجهلها من جهلها) (10).
_________
(1) رواه الطبري في ((تاريخ الرسل والملوك)) (3/ 485)، وذكره ابن كثير في ((البداية والنهاية)) (7/ 43).
(2) رواه مالك في ((الموطأ)) (2/ 720).
(3) رواه الطبري في ((تاريخ الرسل والملوك)) (3/ 520)، وذكره ابن كثير في ((البداية والنهاية)) (7/ 39).
(4) ((العقد الفريد)) لابن عبد ربه (1/ 33).
(5) رواه ابن عساكر في ((تاريخ دمشق)) (45/ 181)، وذكره الذهبي في ((تاريخ الإسلام)) (7/ 197).
(6) ((العقد الفريد)) لابن عبد ربه (1/ 27).
(7) ((الأخلاق والسير)) لابن حزم (ص: 90).
(8) ((مجموع الفتاوى)) (28/ 146).
(9) ((مجموع الفتاوى)) (28/ 146).
(10) ((الطرق الحكمية)) (ص: 5).

أقسام العدل
(والعدل ضربان:
- مطلق: يقتضي العقل حسنه، ولا يكون في شيء من الأزمنة منسوخا، ولا يوصف بالاعتداء بوجه، نحو: الإحسان إلى من أحسن إليك، وكف الأذية عمن كف أذاه عنك.
- وعدل يعرف كونه عدلا بالشرع، ويمكن أن يكون منسوخا في بعض الأزمنة، كالقصاص وأروش الجنايات، وأصل مال المرتد. ولذلك قال: فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ [البقرة:194]، وقال: وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا [الشورى:40]، فسمي اعتداء وسيئة، وهذا النحو هو المعني بقوله: إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ [النحل:90]، فإن العدل هو المساواة في المكافأة إن خيرا فخير، وإن شرا فشر، والإحسان أن يقابل الخير بأكثر منه، والشر بأقل منه) (1).
_________
(1) ((مفردات ألفاظ القرآن)) للراغب الأصفهاني (ص552).

صور العدل
لا ريب أن المظاهر والصور التي يدخل فيها العدل كثيرة فمنها:
1 - عدل الوالي:
والوالي سواء كانت ولايته ولاية خاصة أو عامة يجب عليه أن يعدل بين الرعية.
قال ابن تيمية رحمه الله: بعد أن ذكر عموم الولايات وخصوصها كولاية القضاء، وولاية الحرب، والحسبة، وولاية المال: (وجميع هذه الولايات هي في الأصل ولاية شرعية ومناصب دينية فأي من عدل في ولاية من هذه الولايات فساسها بعلم وعدل وأطاع الله ورسوله بحسب الإمكان فهو من الأبرار الصالحين وأي من ظلم وعمل فيها بجهل فهو من الفجار الظالمين) (1).
وقال أيضاً: (يجب على كل ولي أمر أن يستعين بأهل الصدق والعدل وإذا تعذر ذلك استعان بالأمثل فالأمثل) (2).
2 - العدل في الحكم بين الناس:
سواء كان قاضياً، أو صاحب منصب، أو كان مصلحاً بين الناس، وذلك بإعطاء كل ذي حق حقه، قال تعالى: وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ [النساء:58]
3 - العدل مع الزوجة أو بين الزوجات:
بأن يعامل الزوج زوجته بالعدل سواء في النفقة والسكنى والمبيت، وإن كن أكثر من واحدة فيعطي كلا منهن بالسوية.
قال تعالى: وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ذلِكَ أَدْنى أَلَّا تَعُولُوا [النساء:3]
أما إذا كان له ميل قلبيُ فقط إلى إحداهن فهذا لا يدخل في عدم العدل، قال تعالى: وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا [النساء:129]
4 - العدل بين الأبناء:
قال صلى الله عليه وسلم: ((فاتّقوا الله واعدلوا بين أولادكم)) (3) كما مر في حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه. ويكون العدل بين الأولاد في العطية وغيرها.
5 - العدل في القول:
فلا يقول إلا حقاً، ولا يشهد بالباطل، قال تعالى: وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [الأنعام:152]
وقال سبحانه: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ [النساء:135]
6 - العدل في الكيل والميزان:
قال تعالى: وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ [الأنعام:152] (يأمر تعالى بإقامة العدل في الأخذ والإعطاء، كما توعد على تركه في قوله تعالى: وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ [المطففين:1 - 6]. وقد أهلك الله أمة من الأمم كانوا يبخسون المكيال والميزان) (4).
7 - العدل مع غير المسلمين:
قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [المائدة:8]
(وفي كون العدل مع الأعداء الذين نبغضهم أقرب للتقوى احتمالان:
الأول: أن يكون أقرب إلى كمال التقوى، وذلك لأن كمال التقوى يتطلب أموراً كثيرة، منها هذا العدل، والأخذ بكل واحد من هذه الأمور يقرب من منطقة التقوى الكاملة.
الثاني: أن يكون أقرب إلى أصل التقوى فعلاً من ترك العدل مع الأعداء ملاحظين في ذلك مصلحة للإسلام وجماعة المسلمين، وذلك لأنه قد يشتبه على ولي الأمر من المسلمين في قضية من القضايا المتعلقة بعدو من أعدائهم، هل التزام سبيل العدل معه أرضى لله؟ أو ظلمه هو أرضى لله باعتباره معادياً لدين الله؟ وأمام هذا الاشتباه يعطي الله منهج الحل فيقول: اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى [المائدة:8] أي: مهما لاحظتم أن ظلمه لا يتنافى مع التقوى فالعدل معه أقرب للتقوى.
ولا يخفى أن من ثمرات هذا العدل ترغيب أعداء الإسلام بالدخول فيه، والإيمان بأنه هو الدين الحق، وكم من حادثة عدل حكم فيها قاضي المسلمين لغير المسلم على المسلم اتباعا للحق، فكانت السبب في تحبيبه بالإسلام ثم في إسلامه) (5).
_________
(1) ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (28/ 68).
(2) ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (28/ 67).
(3) رواه البخاري (2587) من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه.
(4) ((تفسير القرآن العظيم)) لابن كثير (3/ 364).
(5) ((الأخلاق الإسلامية)) لعبد الرحمن حبنكة الميداني (1/ 581).

نماذج من عدل الرسول صلى الله عليه وسلم
الإسلام هو دين العدالة وإن أمة الإسلام هي أمة الحق والعدل، وقد طبق الرسول صلى الله عليه وسلم العدل وكان نموذجا في أعلى درجاته، وطبقه خلفاؤه من بعده.
- فقد روى أبو نعيم في (معرفة الصحابة) ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عدل صفوف أصحابه يوم بدر، وفي يده قدح يعدل به القوم، فمر بسواد بن غزية حليف بني عدي بن النجار قال: وهو مستنتل من الصف، فطعن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقدح في بطنه، وقال: استو يا سواد فقال: يا رسول الله أوجعتني وقد بعثك الله بالعدل، فأقدني قال: فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم استقد قال: يا رسول الله إنك طعنتني وليس علي قميص قال: فكشف رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بطنه، وقال: استقدقال: فاعتنقه، وقبل بطنه، وقال: ما حملك على هذا يا سواد؟ قال: يا رسول الله، حضرني ما ترى، ولم آمن القتل، فأردت أن يكون آخر العهد بك أن يمس جلدي جلدك، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم له بخير)) (1).
- وعن عائشة زوج النبي -صلى الله عليه وسلم- ((أن قريشا أهمهم شأن المرأة التي سرقت في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- في غزوة الفتح فقالوا من يكلم فيها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقالوا ومن يجترئ عليه إلا أسامة بن زيد حب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. فأتى بها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فكلمه فيها أسامة بن زيد فتلون وجه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال أتشفع في حد من حدود الله فقال له أسامة استغفر لي يا رسول الله. فلما كان العشي قام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فاختطب فأثنى على الله بما هو أهله ثم قال أما بعد فإنما أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد وإني والذي نفسي بيده لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها)) (2). ثم أمر بتلك المرأة التي سرقت فقطعت يدها.
- وعن خولة بنت قيس - امرأة حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنهما - قالت: ((كان على رسول الله صلى الله عليه وسلم وَسق من تمر لرجل من بني ساعدة، فأتاه يقتضيه، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً من الأنصار أن يقضيه، فقضاه تمراً دون تمره فأبى أن يقبله، فقال: أتردُّ على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: نعم ومن أحق بالعدل من رسول الله صلى الله عليه وسلم فاكتحلت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بدموعه ثم قال: ((صدق، ومن أحق بالعدل مني؟ لا قدّس الله أمةً لا يأخذ ضعيفها حقّه من شديدها، ولا يتعتعه)) (3).
_________
(1) رواه أبو نعيم في ((معرفة الصحابة)) (3/ 1404)، قال الألباني في ((السلسلة الصحيحة)) (6/ 808): إسناده حسن إن شاء الله تعالى.
(2) رواه البخاري (3475)، ومسلم (1688).
(3) رواه الطبراني في ((الكبير)) (24/ 233)، والطحاوي في ((شرح المشكل)) (11/ 104) من حديث خولة الأنصارية رضي الله عنها. وقال الألباني في ((صحيح الترغيب)) (1816): صحيح لغيره.

نماذج من عدالة الصحابة رضي الله عنهم
عدل عمر بن الخطاب رضي الله عنه
- عمر رضي الله عنه -الخليفة الثاني- يمثِّل العدل في الإسلام، فعن عطاء: قال كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يأمر عماله أن يوافوه بالموسم، فإذا اجتمعوا قال:
(يا أيها الناس، إني لم أبعث عمالي عليكم ليصيبوا من أبشاركم، ولا من أموالكم، ولا من أعراضكم إِنما بعثتهم ليحجزوا بينكم، وليقسموا فيئكم بينكم، فمن فعل به غير ذلك فليقم.
فما قام أحد إلا رجل، قام فقال: يا أمير المؤمنين إِنَّ عاملك فلاناً ضربني مائة سوط. قال: فيم ضربته؟ قم فاقتص منه. فقام عمرو بن العاص رضي الله عنه فقال: يا أمير المؤمنين إنك إن فعلت هذا يكثر عليك، وتكن سنّة يأخذ بها مَنْ بعدك. فقال: أنا لا أُقيد وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقيد في نفسه؟ قال: فدعنا لنرضيه. قال: دونكم فأرضوه، فافتدى منه بمائتي دينار عن كل سَوْط بدينارين) (1).
- وعن أنس رضي الله عنه (أن رجلاً من أهل مصر أتى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقال: يا أمير المؤمنين عائذ بك من الظلم. قال: عذتَ معَاذاً. قال: سابقت ابن عمرو بن العاص فسبقته، فجعل يضربني بالسوط ويقول: أنا ابن الأكرمين. فكتب عمر إلى عمرو - رضي الله عنهما- يأمره بالقدوم ويقدم بابنه معه. فقدم فقال عمر: أين المصري؟ خذ السوط واضربه. فجعل يضربه بالسوط ويقول عمر: اضرب ابن الأكرمين. قال أنس: فضرب والله لقد ضربه ونحن نحب ضربه؛ فلما أقلع عنه حتى تمنينا أنه يرفع عنه. ثم قال للمصري: ضَعْ على صلعة عمرو. فقال: يا أمير المؤمنين إِنّما ابنه الذي ضربني وقد استَقَدْت منه. فقال عمر لعمرو؛ مذ كم تعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً؟ قال: يا أمير المؤمنين لم أعلم ولم يأتني) (2).
- ولما أُتي عمر بن الخطاب رضي الله عنه بتاج كسرى وسواريه، قال: (إن الذي أدى هذا لأمين! قال له رجل: يا أمير المؤمنين، أنت أمين الله يؤدون إليك ما أديت إلى الله تعالى، فإذا رتعت رتعوا) (3).
عدل علي رضي الله عنه:
وهذا نموذج آخر من إقامة العدل قام بتطبيقه أمير المؤمنين علي رضي الله عنه وهو خليفة: فقد افتقد درعا له في يوم من الأيام ووجده عند يهودي فقال لليهودي: (الدرع درعي لم أبع ولم أهب فقال اليهودي: درعي وفي يدي فقال: نصير إلى القاضي فتقدم علي فجلس إلى جنب شريح وقال: لولا أن خصمي يهودي لاستويت معه في المجلس ولكني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((وأصغروهم من حيث أصغرهم الله)) فقال شريح: قل يا أمير المؤمنين فقال: نعم هذه الدرع التي في يد هذا اليهودي درعي لم أبع ولم أهب فقال شريح: إيش تقول يا يهودي؟ قال: درعي وفي يدي فقال شريح: ألك بينة يا أمير المؤمنين؟ قال: نعم: قنبر والحسن يشهدان أن الدرع درعي فقال شريح: شهادة الابن لا تجوز للأب فقال علي: رجل من أهل الجنة لا تجوز شهادته؟ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة)) فقال اليهودي: أمير المؤمنين قدمني إلى قاضيه وقاضيه قضى عليه أشهد أن هذا هو الحق وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله وأن الدرع درعك) (4).
_________
(1) رواه ابن سعد في ((الطبقات الكبرى)) (3/ 293) من حديث عطاء.
(2) رواه أبو القاسم المصري في ((فتوح مصر والمغرب)) (195).
(3) رواه البيهقي في ((السنن الكبرى)) (13033).
(4) ذكره السيوطي في ((تاريخ الخلفاء)) (142) وقال: أخرجه الدراج في جزئه المشهور بسند مجهول عن ميسرة عن شريح القاضي.

مفهوم خاطئ للعدل:
كل من أراد أن يُسوِّق بضاعته المزجاة ويروِّج لباطله يأتي بعبارات براقة وألفاظ محبوبة تستسيقها الفطر السليمة فيقوم بتحريف معانيها على ما يريده من المعاني الباطلة، ومن ذلك تحريف معنى العدل على المفهوم الخاطئ من قبل المعتزلة، والجبرية، ودعاة التحرر من الكفرة والعلمانيين.
1 - العدل عند المعتزلة:
فقد جعل المعتزلة العدل من أصولهم الخمسة وتسمية أنفسهم بأهل العدل والتوحيد:
ومعنى العدل عندهم: نفي القدر، فيقولون: إن إثبات القدر جور وظلم، ويجب العدل على الله.
2 - العدل عند الجبرية:
الجبرية استعملوا العدل وأطلقوه في حق الله على كل مقدور.
والجبرية يعتقدون أن الإنسان مجبور على أفعاله، ويعتقدون أن أفعاله كلها اضطرارية، كحركات المرتعش وحركات الأشجار، والفاعل هو الله، وإضافتها إلى الإنسان مجازًا.
3 - العدل عند الكفار والعلمانيين والحداثيين:
يدعي الكفرة والعلمانيون والحداثيون بأنهم أهل الحرية والعدل والمساواة وهم أبعد من العدل. والعدل والحرية الذي يدندنون حوله هو هدم ما جاءت به الشريعة الإسلامية من الأحكام.

العدل في واحة الشعر ..
قال ابن حزم:
زمام أصول جميع الفضائل ... عدل وفهم وجود وبأس
فمن هذه ركبت غيرها فمن ... حازها فهو في الناس رأس
كذا الرأس فيه الأمور التي ... بإحساسها يكشف الالتباس
وقال الزمخشري: قدم المنصور البصرة قبل الخلافة، فنزل بواصل بن عطاء، فقال: أبيات بلغتني عن سليمان بن يزيد العدوي في العدل، فمر بنا إليه، فأشرف عليهم من غرفة فقال لواصل: من هذا الذي معك؟ قال: عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس، فقال: رحب على رحب، وقرب إلى قرب، فقال: يحب أن يستمع إلى أبياتك في العدل، فأنشده:
حتى متى لا نرى عدلاً نسر به ... ولا نرى لولاة الحق أعوانا
مستمسكين بحق قائمين به ... إذا تلون أهل الجور ألوانا
يا للرجال لداء لا دواء له ... وقائد ذي عمى يقتاد عميانا (1)
وقال الزهاوي:
العدلُ كالغيثِ يحيي الأرضَ وابلهُ ... والظلمُ في الملكِ مثلُ النارِ في القصبِ
وقال آخر:
أدِّ الأمانةَ والخيانةَ فاجتنبْ ... واعدلْ ولا تظلمْ يطيبُ المكسبُ
وقال أبو الفتح البستي:
عليكَ بالعدلِ إِن وُليتَ مملكةً ... واحذرْ من الجورِ فيها غايةَ الحذرِ
فالعدلُ ينفيهِ أنى احتلَّ من بلدٍ ... والجورُ ينفيح في بدوٍ وفي حضرِ
وقال آخر:
عن العدل لا تعدل وكن متيقظاً ... وحكمك بين الناس فليك بالقسط
وبالرفق عاملهم وأحسن إليهم ... ولا تبدلن وجه الرضا منك بالسخط
وحل بدر الحق جيد نظامهم ... وراقب إله الخلق في الحل والربط
وقال آخر:
نخاف على حاكم عادل ... ونرجو فكيف بمن يظلم
إذا جار حكم امرئ ملحد ... على مسلم هلك المسلم ...
_________
(1) ((ربيع الأبرار)) للزمخشري (3/ 391 - 392).

واتساب

التعليقات

تحميل ... جاري تسجيل الدخول ...
  • مسجل دخولك باسم
لا توجد تعليقات حتى الآن ! كن أول من يرسل تعليقه !

إرسال تعليق جديد

Comments by